قراءة تحليلية لقصيدة " على خريطتي " للشاعر الجزائري نور الدين جريدي
إيمان مصاروة / القدس / الناصرة
*على خارطتي *
1- هاتف في غسق الليــــــــل تداعىَ '
وحنيــــــــــن ألهب القلب التياعَا
2 -فترامت لغـــــــــة الشعر وذابتْ
في دمي توقظ آيــــــًا ويــــراعَا
3- فسقيت اللفظـــــــــة العطشى هُيَامًا
من منى الأحــــــلام رصَّعتُ الرقاعَا
4 -عزفتْ رناتُها مهجــــــــــةَ لحنٍ
با سم الثغـــــــــر و قد لا ح التماعَا
5- ها ..هنا الأطياف للبحــــــــر تغني
يُرقص المــوج رمالا وشــــــراعَا
6- يقرأ الكف ضيـــــــــــاءً وأمانا
قد ترامى في عيــــــوني 'وتراعَى '
7 - وعلى 'صــــــدري شموس قد تمارتْ
لألأت ْ من صـــــــور الوهْج قلاعا
8- يعزف الغنــــــــــام نايا وصباحا
ويغني آهــــــــــة الحزن وداعَا
9- وتناهت أنة الشجـــــــــــو بعيدًا
وتهادى الفجـــــــر في الأيك افتراعَا
10- وقصيـــــــــدي ينشر الدنيا ظلالا
في مدى الصحـــــــراء دفئا وانتفاعا
11 - وتوارت ظلمـــــــــة الليل وذابت
في شفاه اللفظ طـــــــوعا وانصياعَا
** **
12 -وهنا ' ذاكـــــــــرة الأمس تراءتْ
وتداعت قمم المجــــــــــد تباعَا
13 وعلى 'خاصــــــــرتي قيظ يناجي
ألمـــــــــــا يَنْهم بؤسا وجياعَا
14- وعلى 'خارطتي صوت تعـــــــالى'
تذكـــــــري أرض عناء وصراعَا ؟'
15- فيخط البـــــــــــدء للسير بنودًا
فإذا المـــــــــوعد كالسيل تداعَى '
16- وطني ..أعـــــــــزفه لحنا وخلدًا
يُنشد الأحـــــــــلامَ شدوًا واندلاعَا
17- وبيان من دمـــــــــائي مد َّ عهدًا
يبعث الحـــــــق َّ مدى البحر اتساعا
18- وشهيــــــــد ٌ كضياء الشمس يسمو
قد مضى يرتشف المـــــــوت ابتداعَا
19 -ارتمى في ساحـــــــة العشق شواظا
ها .. هنا الأعــــــداء باتت تتناعىَ '
20- وســــــــرى '"نوفمبر " الخلد التهابا
يسقط البــــــــدء عن الأرض قناعَا
21- ذا شموخي من نجـــــــوم قد تباهت ْ
في سمو ّ تعشق الأفــــــــق ارتفاعَا
** **
22- وحمامات على كفي تنـــــــــاجي
إيْـــه َ .. يا قدس اختفى مجـدي وضاعَا
23- انتظر .. يا قدسنا إني على عهـــــدي
غدا تجتاح أحــــــــــلامي بقاعَا
24- فغدا يعصف جــــــــرحي واشتياقي
بسمومٍ ترْعبُ الوجـــــــد َ اضطجاعَا
25- يسحق الوهم ويذرى في بحـــــــار
يجرف ُ الغَـــــــرْقد ُ، يجتث اقتلاعَا
القدس عروس المدائن تشرئب إليها كل أعناق الأحرار وتنبض لها كل القلوب ، ولها إرث تاريخي عريق فهي من أقدم العالم عايشت الحضارات المختلفة منذ أن فتحتْ عينيها على الوجود واكتستْ منذ أن طلع فجر الإسلام على الدنيا طابع القداسة لكونها أولى القبلتين وثالث الحرمين حيث أسرى إليها الرسول الكريم ،ثم تلاحقتْ عليها الأحداث حتى صارت في العصر الحديث جريحة تعاني الأسر والقيود فتلتفتُ نحوها خواطر الشعراء مواسية باكية لها ، دائمة الشوق والحنين إليها . من هؤلاء الشعراء نجد الشاعر الجزائري المتمرس في الشعر الموزون نور الدين جريدي الذي سجل في قصيدته " على خاطرتي" جل ما يعتلج بين حنايا العرب والمسلمين من حب لهذه المدينة المقدسة وذلك في ختام قصيدته ، التي سنتحاول تناول أهم دلالاتها في هذه القراءة .
يمكنك استخراج أهم الأفكار الواردة في القصيدة على الشكل التالي:
في الأبيات الأربعة الأولى يتحدث عن الشاعر عن لحظة ما عاشها ذات ليل حيث تداعى أو تساقط عليه يلهمه ويستحثه للكتابة ، ويشعل حنينه وشوقه في قلبه ، وإذا بألفاظ الشعر تنهال عليه وتكتظ بداخله حتى تختلط بدمه فتوقظه قلمه ليكتب قصيدة جديدة، فتفاعل الشاعر مع هذا الإلهام وشرع في الكتابة وهو يسقي الألفاظ من عشقه ويحييها بعد موتها ،ويزين الاوراق التي يكتب عليها بأمنيات أحلامه ، فصارت ألفاظُه معزوفاتٍ جميلة ذات لحن باسمٍ واضح اللمعان .
في الأبيات من 5 إلى 8 يغوص الشاعر في وقفات تأمل ويحلق بخيالاته ، فيرى الذكريات تغني في الشاطى حتى ترقص لأمواجها رمال الشاطئ وأشرعة القوارب ،وإذا بالشاعر يستشرف المستقبل وما تأتي به الأيام فتموج أمام عينيه صور الضياء والأمان في الأفق ، حتى تتبدى له شموس متلألئة ترسم في السماء من الأشعة قلاعاً، وفي هذه المشاهد الرومانسية المليئة بالتفاؤل يعزف راعي غنم على نايه مبشرا بقدوم الصباح مودعا آهة الحزن.
في الأبيات من 9 إلى 11 يتحدث الشاعر بلهجة أمل وفرح تاركاً لهجة الحزن بعيداً مستقبٍلاً فجْراً جديداً ، وإذا بشعره يملأ الصحراء بدفء الكلمات والصور ، فيختقي ظلام الليل خاضعاً لسلطان ألفاظه الباهرة الضياء .
ونجد الشاعر في الأبيات ما بين 12و15 يعود بذاكرته إلى الماضي ، فتتراءى له الأمجاد الغابرة لأمته ،و يستحضر آلام البؤساء والجياع، وإذا بصوت يهتف لروحه في خضم هذه التداعيات قائلا : هل تتذكرين أرض العناء وما حصل فيها من صراع؟ من هذه النقطة سيبدأ سيره إلى المستقبل فله موعد مع غد جديد .
في الأبيات بين 16 و21 يتغني الشاعر بوطنه ويعزفه ألحاناً طافحة بالأحلام ، فيكتب بدمائه بيانا بالعهد بقول كلمة حق بحجم البحر في اتساعها وبعد مراميها . وهو في هذا السياق الوجداني يتذكر شريداً صعد إلى السماء وهو يشرب من كأس الشهادة ، بعدما كان قد ألقى بروحه في ميادين الجهاد وألحق خسارات بالأعداء يجعلتهم ينعون بعضهم البعض . ويستحضر الشاعر بعد ذلك ذكرى أو ل نوفمبر 1954 التي شهدت اندلاع الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي ، فيلتهب قلبه لاسترجاع هذا التاريخ وما فيه من أحداث ملحمية ، ويفتخر الشاعر بهذا الماضي المجيد لوطنه والذي يرى فيها أبطاله كانها نجوم تلمع في السماء.
في الأبيات الأربعة الأخيرة من 22 إلى 25 يحول الشاعر مجرى الحديث إلى القدس ، ففي هذه الوقفة التأملية للشاعر يسمع هديلا حزيناً من حمائمَ تناجي القدس فتقول : لقد غابت المحبة وضاع الوئام على الأرض ، ولكن لا تيأس يا قدس فغداً ستجتاح أسرابي بقاعَك وتعصف جراحي وأشواقي بكل النيران التي المشتعلة هناك ، فتسحق الأوهام وتجرف الغرقد وهو شجر ينبته اليهود فتقتلعه اقتلاعا.
من خلال هذه الأفكار المستخرجة من القصيدة سنجد أننا أمام مجموعة من الموضوعات التي فرضتْ نفسها على الشاعر لإنتاج هذه القصيدة الوطنية والوجدانية ، منها أن الشاعر يسترجع الماضي ويستحضره ويحن إليه كأساس للانطلاق للمستقبل ، وهذا التذكر للماضي المجيد يحضر بشدة في القصيدة في معظم أبياتها ، كما يظهر موضوع حب الأوطان والتغني بها جلياً في القصيدة وهو وطن الشاعر ( الجزائر) من جهة والقدس من جهة ثانية ، فالشاعر يتغنى بوطنه في ذكرى اندلاع الثورة التي أدتْ إلى تحريره ، ولكنه يرى أن فرحته غير مكتملة لكون القدس لا تزال تحت الاحتلال . من هنا فالشاعر يتناول ثلاثة مواضيع هي : 1-استحضار التاريخ.2- التغني بالوطن .3- التعهد باسترجاع القدس. وجاءت هذه الموضوعات مرتبة ترتيباً منطقياً كسلسلة طويلة يؤدي بعضها إلى بعض ، فتذكر أحداث التاريخ بما فيه من أحداث وملاحم وأمجاد أدى بالشاعر إلى التغني بوطنه ، ولكن وطنه ينتمي إلى وطن واسع وكبير هو الوطن العربي لذلك انتقل للحديث عن القدس لأنها قلب العروبة النابض . لذلك لا تبدو هذه الموضوعات متفككة او بلا رابط فكلها منصبة على فكرة واحدة يؤمن بها الشاعر وهي الحرية لوطنه وأمته . ونصل من ذلك إلى أن القصيدة تتوفر فيها شروط الوحدة العضوية التي تجعل النصوص تحتوي عدة موضاعات في قالب واحد.
ولكي يؤدي الشاعر هذه الموضوعات عمد إلى لغة سهلة واضحة لا إشكال فيها يستطيع القراء التفاعل مع مضامينها بيسر ، حيث لا نجد ألفاظا صعبة نضطر للقاموس لمعرفة معناها ، فاللغة المستعملة في القصيدة حديثة وعصرية تتوخى تقديم الفكرة وتوصيلها في المقام الأول . والمعجم الذي استخدمه الشاعر تنتمي عدد من مفرداته إلى الطبيعة فهناك : غسق الليل/ الفجر/ الأيك / البحر / الموج/ ظلمة الليل / طلال / ضياء الشمس / نجوم وغيرها كما تهيمن فيها المفردات التي تدل على حضور الذات مثل : دمي / سقيتُ/ رصعت /عيوني / صدري / وغيرها من العلامات التي تشي بتأثر الشاعر بالحركة الرومانسية التي يلوذ روادها بالطبيعة واجدين فيها الأمان والسكون والأجوبة عن أسئلة الوجود والذات . لذلك يمكن عد هذه القصيدة ضمن قصائد الحركة الرومانسية التي لا تزال ثابتة في الساحة الشعرية ولها أنصار يكتبون وفقا لمقوماتها الفنية والتعبيرية بالرغم من هبوب رياح الحداثة الشعرية التي تحاول استبعاد الحركات السابقة من المشهد الشعري وتطرح نفسها بديلا عنها.
ويظهر هذا الهاجس الرومانسي الذي لا يستغني عن القديم كليا ، عند الشاعر منذ مطلع قصيدته حيث يلجأ إلى تقنية التخييل بافتراض أن هناك هاتفاً ناداه في أول الليل ليكتب قصيدة ، معيدا إلى الأذهان قصص تواصل الشعراء مع الجن المتداولة عن الجاهلية ، فقد روي على سبيل المثال عن عبيد الأبرص أحد شعراء المعلقات أنه مرّ بوادٍ ، فإذا بهاتفٍ من عدوة الوادي، وهو يقول:
يا صاحبَ البكرِ المُضِلِّ مَرْكَبَهْ ... دونَكَ هذا البكرَ مِنَّا فاركبَه
ما دونَه من ذي الرّشادِ تَصحَبُه ... وبكْرُكَ الآخرُ أَيضاً تجنُبُه
حتى إذا اللّيلُ تَجَلّى غَيهَبُه ... فَحُطَّ عَنْهُ رَحلَهُ وسَيّبَه
إذا بَدَا الصّبحُ ولاحَ كَوكَبُه ... وقد حمدتَ عنهُ ذاكَ مَصحبَه
فيكون هذا الهاتف هو ما أوحى له هذه القصيدة الجديدة ، حتى إن لغة الشعر ترامت عليه وذابت في دمه توقظ قلمه من سباته ( البيت الثاني) مسجلاً بدقة لحظة الإبداع والفيض.ويبدو التناص واضحاً بين الشاعر عبيد في قوله: " حتى إذا الليل تجلى كوكبهْ" وبين نور الدين جريدي في قوله: " هاتف في غسق الليل تداعى" فكلامها وجد الليل منطلقاً لإبداع القصيدة .وهذا التخييل شائع في معظم الأبيات كما في تصويره الأطياف على أنها تغني فترقص الأمواج والرمال والأشرعة ( البيت الخامس) ، او كما في تخيله الشمس جاثمة على صدره( البيت السابع ) ، وهذا كله يندرج في تقنيات بلاغية اعتاد الشعراء الرومانسيون على استعمالها لتقوية الصور الشعرية وجعل الروح تدب في الكلمات والأشياء إ، فالشاعر يقوم بأنسنة المفردات وجعلها تقوم بما يقوم به الإنسان كما ان كما في قوله: حنين ألهب القلب التياعاً / لغة الشعر توقظ يراعا / سقيتُ اللفظة / لحن باسم الثغر ...وغير ذلك حيث تتحرك المفردات في عالم الشاعر وتخلق صورا ضاجة بالحيوية والدينامية. كما يلاحظ في القصيدة أن الشاعر يستخدم الكناية كثيراً ليتفادى التعبير المباشر عن فكرة ما ، فحين يقول : سقيت اللفظة العطشى هياماً ( البيت الخامس) فهو يكنى عن لحظة خلق للقصيدة بعد طول سكون وهمود وانقطاع عن الكتابة ، أو قوله : وحمامات على كفي تناجي ( البيت22) فهو هنا يستعير الحمامات للسلام كما هو معروف ويكني عن حالة السلام بالتعبير عن ألم الحمامات وحزنها وحنينها. وتظهر الكناية أيضا في قوله إن الجرح سيجرف الغرقد ويجتثه ويقتلعه (البيت الأخير) وفي هذا كناية عن زوال الاحتلال عن القدس باستحضار أحد رموزهم وهو شجرة الغرقد . هذه أمثلة من التقنيات البلاغية التي وظفها الشاعر في قصيدته ومنحتها سمة الجمالية والفنية وإتقان استعمال اللغة للتعبير عن دات الشاعر.
إيقاعياً استخدم الشاعر في قصيدته البحر الرمل التام الاعاريض والأضرب ، وهو بحر موسيقى يُتغنى به ويناسب أجواء التعبير عن الذات ، كما اختار روي العين المشبع بألف مد تستجيب لآهات الشاعر وتقبله بين الشجو والألم والامل والتفاؤل وهو يعبر عن عشقه لوطنه وتأثره بوضع القدس الأسير.
وبذلك نكون قد مررنا على قصيدة وطنية رومانسية للشاعر نور الدين الجريدي أبان فيها عن روحه الوطنية العالية في ارتباطه بالتاريخ الوضاء لأمته وتغنيه بالشهادة والنبل والشهامة وانغماس روحه في قضية القدس التي لا تكتمل أفراحه بالتحرير الذي حصل عليه وطنه قبل أن تنال هي الأخرى حريتها ، كما استجاب الشاعر للمواصفات الجمالية للقصيدة العصرية ذات السهولة في التعبير والوضوح في الأفكار والاستعمال الجيد للأدوات البلاغية والوزن الشعري .