Admin Admin
عدد المساهمات : 50 تاريخ التسجيل : 02/09/2012
| موضوع: شاعر يرتقي سُلَّمة الحزن ويعلو هابطاً ( قراءة في قصائدَ للشاعر مراد السوداني) الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 4:42 pm | |
| شاعر يرتقي سُلَّمة الحزن ويعلو هابطاً
( قراءة في قصائدَ للشاعر مراد السوداني)
إيمان مصاروة / القدس- الناصرة.
الشعر هو طوق النجاة الذي تلوذ به الأرواح والقلوب لتنقذ أنفسها من طغيان البشاعة والفظاعة وتساقط القيم بين الأودية الضحلة والمنعرجات الخطرة حيث تمتلئ الطرق الى الحقائق بالألغام والأشواك والمتاريس .الشعر عالم السحر والأحلام يقابل عالم الواقع .إنه يخلق للشاعر فرصة فريدة للطيران فوق غابات الدهشة والروعة والجمال ، ليشرب من نهر الكلمات العذب النمير الصافي كزرقة السماء الواسعة التي لا تتساقط عليه أحجار الشر لتكدر جريانها الرقيق وصورها الملائكية . و هذا الاندماج الروحي مع الشعريحققه من يعتنقون فلسفة الفن للفن والشعر للشعر ، حيث تذوب كل حواسهم في محراب الكلمة الشاعرة ، وتتجه لها وحدها جوارحهم بكل انفعالاتها وانشغالاتها وحركاتها بين النوم واليقظة والامل واليأس والسكون والجلبة .
ولعل الشاعر الفلسطيني المعروف مراد السوداني أحد هؤلاء الشعراء الذين آمنوا بالشعر كملجإ وملاذ وجزيرة نائية وشجرة وارفة الظلال ، فكان قلمه سيالا بالهواجس الذاتية الوجودية ، المعبرة عن الإنسان الذي يمارس إنساتيته في التفكير والتساؤل ومناجاة الحب الحاضر والغائب ، ومكابدة الارق والسهر والحب والحلم. بل نراه يستغيث بالشعر ليمده بأدوات البقاء على قيد الأمل والصبر والعنفوان . يقول شاعرنا في قصيدة " استغائة " :
أدركني بفوضاكَ البريئةِ بالأقحوانِ على مسيلِ النبعِ بالجمرِ اللعوبِ وريشةِ الصبرِ الغريبةْ
أدركني أيُّها السيُّدُ الشعرُ فقد شلحتني الحبيبةُ شالاً على شجرٍ أزرقٍ يحترقْ
بلادي مضوَّأةٌ بالحرابْ ليالي مضوّعةٌ بالعتابْ وروحي غريبة
نقرأ هنا ان الشاعر محاصر بين عواطف متضادة ، حيث تحضر المفردات الأنيقة الهادئة ، ثم تاتي بعدها ألفاظ صاخبة هادرة ، فحين يتحدث عن الشاعر عن البراءة والأقحوان والصبر والحبيبة والشجر ، سرعان ما تأتي ألفاظ الجمر والغرابة والاحتراق موحية باصطدام الشاعر بالواقع المأمول ونقيضه ، وبتكسر أمنياته على صخور الزمن الذي لا يستجيب لأحلام الأحرار وطموحاتهم . وهكذا يستعمل الترصيع اللفظي وهو يقارن بين بلاده المضوأة بالحرابِ ولياليه المُضوّعة بالعتاب ، ويجمع بين الحِراب أي الرماح والعتاب في مشهد واحد يشي بقلق وحزن وحيرة الشاعر وغربة روحه .وبذلك نكون بصدد قراءة شاعر يقدم في شعره أحد ملامح الشجن الفلسطيني المعاصر الذي غدته معاناة الوطن الأسير وصعوبة أوضاعه وغموض آفاقه واحتلال الليل الطويل أرضه وسماءه ، ففجّر ( أي الشجن الفلسطيني ) في شعراء الوطن نزيفاً عارماً يتجلى على سطح القصائد في لغة متشحة بالبياض والسواد طافحة بالتساؤلات والانتظارات ، ويدخل هذا الشجن في الحالة الشعرية الحديثة التي طغى فيها الشعر الذي يعبر عن الذات في انفعالاتها وهواجسها وتجلياتها وفي غربتها الروحية الأكثر حدة من الغربة المكانية مثلما يقول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب:
يا غربة الروح في دنيا من الحجر و الثلج و القار و الفولاذ و الضجر يا غربة اروح لا شمس فأئتلق فيها و لا أفق
يفتتح الشاعر جل قصائده التي بين أيدينا بالحديث بضمير المخاطب وهي سمة تميز شعره بكونه ملجأ الشاعر وملاذه ليفضي فيه بمكنونات ذاته ، وفيه يبث لواعجه ويبوح باعترافاته ويشكو انكساراته ، وهذا ما نستنتجه من بدايات عدة قصائد له ، إذ يقول في أوائلها : أدركني بفوضاك البريئة . أنا الذي قد رأيتُ سأروي الحكاية. أمشي إلى الوادي القريب. طوّحتني الخسارات يا صاحبي. هيأتُ لك الليل معافى بمباذله. منذ عشرين طريقا لم أجئ للسور. لم أنم ليلة البارحة.يتقطع من شفتي هبيد الكلمات. كلما عنّ لي بارق في المنامات. خذي نقش قلبي...من هذه المنطلقات المتشابهة في كونها صادرة عن الذات حيث ينادي الشاعر ويستغيث ويحكي ، و يبدأ رحلة المعنى متأبّطاً شجنه العتيق وعشقه النازف :
خببٌ يثغو وإيقاعُ أوارِ الماء دفّاقٌ رجيم هجسُ تأويلِ المجازاتِ .. رباباتٌ .. همومٌ تنتشي بالصخبِ الذاهل .. أرتقي سُلّمة الحزنِ وأعلو هابطاً أروي تفاصيل الحكاية .. جئت كي أروي طريقَ الجبلِ الراحلِ
إن الشاعر في هذا المقطع يستخدم لغة الشعر الحديث بوعي شديد بأهميتها في توصيل الفكرة للقارئ وجعله يعيش في عالم الشاعر حتى كأنه يشاركه متعة الكتابة.وهكذا يغرف الشاعر من نهر اللغة ألفاظاً يبث فيها الحيوية والحركية ويُخرجها من حالة الرتابة والهدوء أو يضيف إليها ما يعزز ثورتها وتدفقها ، فالشاعر يُسند الثغاء إلى الخبب وهو نوع من السير السريع، و يجعل إيقاع الأوار أي العطش متدفقاً ويشبه الهجس بالربابات ،ويفترض أن الهموم تشرب من خمرة الصخب، فيخلق اللغة خلقاً جديداً ، وليس ذلك عبارة عن عملية انتقاء للمعجم، بل هو جسر ضروري يوصلنا إلى معنى الشاعر ، فنحدس حالته النفسية التي بعثتْ فيه هذا البوح المشبع بالتداعيات والأحلام والخيالات وذلك حين يرتقي سلم الحزن ثم يهبط منه فيروي أي يسرد لنا تفاصيل حكايته ويروي طريق الحبل الراحل أي يسقيه ، مستخدماً تقنية الجِناس بين يروي الأولى ويروي الثانية ولكن لهدف تعبيري ووظيفة انفعالية لا لغرض بلاغي كما كان سائداً في الشعر القديم.
ويفصح هذا الشعر عن أننا أمام مبدع منغرس في تربة الكلمات حتى الثمالة ، فهو شاعر في حياته مثلما هو شاعر في شعره إذ يكابد على أرض الواقع ما يكابده في القصيدة ، فأيامه ولياليه مكتضة بالأخيلة السوداء والكلام الأبيض :
أذهبُ في يقظةِ نومي العاثر ممسوساً بنداءات شعابِ الجنّ أدوِّرُ أقداحَ العمرِ وأسعلُ أخيلةً سوداءَ وكلاماً أبيضْ
كان الشاعر مبتكرا خلّاقا إلى أقصى درجة وهو يكتب في قصائده سيرتَه الذاتية ، بطريقة تنم عن مقدرة سردية عالية عنده وضبط لتقنية الكتابة القصصية ، إذ يصور الاحداث التي مرت أمامه بدقة ويستحضر تفاصيلها ، كما يختلي بذاته ويتحدث إليها طويلاً موظفاً إحدى وسائل القص وهو المونولوج .يقول مثلا وهو يتحدث عن سنين عمره وكأنها قِطع من الحنين مرتْ سريعا :
ثلاثينَ حنيناً وتهتُ على غير هدىً .. وبلادي دارت بي كالخمرة في الكأسِ .. ودرتُ بها وجداً
ويتحول الشاعر من حين إلى آخر مصوراً فوتوغرافياً يجيد التقاط اللحظات البعيدة التي مرت على ذاكرته بما فيها من أمكنة و انفعالات ومشاهدات ، تتمرأى على سطح خافقه ، ويعيد وضعها في زاوية خاصة تخدم الرؤى التي يريد تمريرها . يقول وهو يضع نصب عينيه مشاهد حية كان عاشها واندمج في أشيائها :
ألمدْرَجِ العُشْبِ النحيلِ رفعتَ قلبكَ طلقةً .. ورسمتَ داليةً بحجمِ غمامةٍ ورقصتَ حولَ خيامِ قومكْ ! ثمَّ انتبهتَ لشبرقٍ يلتفُّ حولكْ وعلى مدى عينيكَ تبصرُ خشخشاتِ السروِ والقمَرَ المدلّى عالياً ..
وغني عن الذكر أن هذا التعبير بالصور يُعد من خاصيات الشعر الحديث ، حيث إن هذا التصوير ليس هدفا بحد ذاته وإنما احد عناصر الخلق الشعري الذي يعضده الخيال والتخييل والانزياح والرموز لتقديم تجرية الشاعر ورؤيته.وشاعرنا إذ يسير على هذا النهج يستحضر عدة أبعاد تدعم فكرته وتمنح القوة والإقناع لصوره ، فهو يجعل خفوق القلب موازياً لطلقة نارية ، مستعيداً إلى ذهنه بعض أشكال المقاومة، كما يوظف الدالية باعتبارها أحد رموز البيئة الفلسطينية، وكذلك الخيام ملمحاً للواقع العربي. ويذهب إلى أبعد مدى في التخييل فيصور القمر متدلياً في السماء كأنه اغتيل ، وليست هذه المشاهد الدراماتيكية إلا إسقاطا لأحد ملامح الشجن الفلسطيني الذي ألبس مظاهر الوجود أردية سوداء وجعل الشعراء يشككون في كل ما حولهم ويشعرون بحساسية مفرطة تجاه الموجودات وبغربة وانفصال عن الكون:
ألمدْرَجِ العُشْبِ القتيلِ قطَفتَ نرجِسَتينِ من ماءٍ وحنّاءٍ وصرتَ عرّافَ القبيلة ترتجي وطناً .. وترتجزُ المراثي والبكائياتْ
مثل هذه التقنيات التي استخدمها الشاعر مراد السوداني تمنح لشعره قيمة عالية وتضعه في طليعة الشعراء المعاصرين الذين أنجزوا قصيدة تستجيب لتطور وسيرورة الشعر العربي ولمفاهيم الحداثة الشعرية ، غير أن هذا لا يعني أن شاعرنا وضع الماضي العربي بما في من موروثات دينية وأدبية وشعبية خلف ظهره، فقد كان موازناً بين الكتابة الحداثية والأخذ من الموروث باعتباره يشكل الهوية العربية وهو أحد مقومات بقائها، ولذلك وظّف تقنية التناص في عدة قصائد له ، بشكل يوحي بتعدد قراءاته ومحفوظاته وسعة معارفه ، أو بتداخلها مع تكوينه الأدبي و تحكمها في التشكيل النهائي للغته، فمن أمثلة اقتباسه من القرآن الكريم قوله:
لأنّا اقترفنا الشجاعة في العفو وأُبنا إلى رحلة الطير .. وفضنا بأسرار مملكة النهر .. تُهنا لأنّا مدانون بالبوحِ وأعذارنا للعذارى .. ورمّاننا لافحٌ أو يكاد
وفي هذا استفادة لفظية ودلالية من الآية الكريمة : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ )[سبأ : 10] كما قال الشاعر:
أعمى وأراني أعصرُ خمراً وسنابلُ عينيَّ عجافْ وأخافُ غداً أنتبذُ قصيَّ بلادي
حيث يستثمر منطوق الآيتين الكريمتين : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [ يوسف : 36] وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾[يوسف: 43] حيث يوظف الشاعر هذه الإحالة الدينية لرسم رؤاه المقترنة بالأحلام أمام القارئ. كما يقتبس الشاعر من الآية الكريمة المتحدثة عن مريم عليها السلام : ( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) [ مريم : 22] حيث يبدو هذا التناص متوافقاً مع سياق التدفق الشعوري للشاعر و يخدم سياق الروية الخاصة به كما أن فيه استفادة من بلاغة القرآن الكريم ومن مفرداته الغنية بالدلالات .
ومن أمثلة تناصه مع الموروث الأدبي أحد عناوين قصائده وهو :" أنا الضلّيلُ تركتُ ورائي العمرَ " ، حيث يشير الشاعر إلى قصة امرئ القيس التي تقول بعض الروايات إنه هب ليأخذ بثأر أبيه الملك القتيل لكنه فشل في ذلك وظل شريدا بين قبائل العرب، ولعل هذه القصة تحمل انطباقاً شديداً على الإنسان الفلسطيني المشرد في أرضه الذي ينظر إليه المحتلون كغريب أو كضيف نزل عندهم .
ويمتد حرص الشاعر على التواصل الحميمي مع الموروث الإنساني والثقافي العربي إلى مسألة الإيقاع الشعري، ونعني به الموسيقى التي تتمخض عن الوزن الشعري كما استُنتْ قوانينه في علم العَروض، وفي هذا المجال يبدو الشاعر متمسكاً كل التمسك بالوزن الشعري الذي قرره العرب القدماء، رافضا الخروج عنه إلى الشعر المرسل أو قصيدة النثر ، كما صرح في حوار أجرته معه وكالة أنباء الشعر العربي إذ قال : " أنا مع القصيدة المحمولة على الايقاع وهذا الإرث الايقاعي الذي منح للعرب ما لا يمنح لغيرهم من الشعوب، فمن يمتلك الخز لا يستبدله بالخيش، ومن يسكن القصر لا يستبدله بخيمة، وهكذا أرى بالنسبة للشعر، فمن يمتلك هذا الغنى الايقاعي في النسق الثقافي العربي، من الجنون أن يتخلى عنه كي يقدم قصيدة نثرية أو خالية من الايقاع" وقد أبان في شعره الذي بين أيدينا عن رفضه لقصيدة النثر وسمى أصحابها بالنثراء الذين يأتون بالثرثرة والكلام الفارغ . يقول شاعرنا : طوَّحتني البداياتُ بالعثراتِ ملولاً وأُشبهُ مَنْ ليس يشبهني في جبالِ المتاهات .. صرتُ معنَّى بمهجوس نومي وخفق الظلالِ وثرثرة (النثراء) الغيارى
فكأن هؤلاء " النثراء " أحد أسباب غربته المكانية وإحساسه بالملل والتيه.
وفي هذا السياق يظهر استعمال الشاعر للوزن لافتاً حيث يلجأ عادة للمزج بين عدة بحور في قصيدة واحدة ، كقوله في المقطع الاول من قصيدة: " استغاثة" :
أدركني بفوضاكَ البريئهْ = فعْلن- فاعلُن- فعْلن- فعولن بالأقحوانِ على مسيلِ النبعِ = متْفاعلن- متَفاعلن- متْفاعـ بالجمرِ اللعوبِ = ـلن -متْفاعلن- مـ وريشةِ الصبرِ الغريبهْ = ـ ـتَفاعلن - متَفاعلاتن
أي أن الشاعر استخدم الخبب والمتدارك والمتقارب والكامل في قصيدة واحدة.
كما مزج بين بحري المتقارب والوافر في قصيدة أخرى فقال :
خُذي نقشَ قلبي .. وبُقيا الغناءِ القليلْ .. سأرتقي درجَ الكلامِ ليصعدَ الشهداءُ صوتي .. لا أدّعي علماً بخارطةِ المنامِ .. وزنبقاتِ الريحْ ......
كما يجمع بين بحري المتدارك في قصيدته ": خسارات " التي منها :
طَوَّحتني الخساراتُ يا صاحبي .. والليالي التي نصفُها القتل أَحنتْ رماح يديّ أََحنى على البسطاء من هَدْلِ الندى قلبي أََحنى على الغرباء من رهَجَ الطريق
وغير ذلك من الاستعمالات الإيقاعية المتفردة التي تميز الشاعر بأسلوبه وطريقته وفنه .
هذه بعض الانطباعات عن قصائدَ للشاعر الفلسطيني الكبير مراد السويدي الذي يعد اسما مهماً في خارطة الشعر الحديث ولا يتوقف نتاجه على الشعر حيث إن له كتباً في مناح أدبية أخرى كالنقد والتحقيق كما أنه مناضل مشهود له بالمواقف الوطنية الأصيلة والتي عبر عنها أبلغ تعبير في قصائده التي جسدت ذاته في تعانقها مع الوطن وهمومه وأوجاعه | |
|