ايمان مصاروة\\ القدس\\مجلة أصيلة
قراءة نقدية في شعر وفاء عياشي بقاعي
الشجَنُ الفلسطينيُّ حين يتدفقُ شعراً
الشاعرة وفاء عياشي بقاعي ابنة مدينة طمرة الفلسطينية ،هي صوت أدبي لافت يصدح في ربوع الوطن الأحب للقلب ( فلسطين ال 48) ،ووفاء رسخت من خلال إبداعاتها التمسك بالهوية الفلسطينية رغم معاناة فلسطينيي الداخل جراء محاولات التهميش ووضع العراقيل أمام انتشار ثقافتهم الوطنية ، إضافة إلى ذلك لفت نظرنا أن للقصيدة لوناً اخر عند وفاء عياشي حيث تمثل قوة النزعة الوطنية والإنسانية ما بين الحلم والحقيقة في صراع الحاضر وأمل المستقبل حين سجلت هذا الحزن ورسمت الهم الفلسطيني بأسلوب مباشر وآخر رمزي مبتكرةً صوراً شعرية تصيب كل من يمر على حروفها بدهشة التفاعل مع هذا الإبداع النوعي.
بدأت وفاء عياش الكتابة عندما كانت تسبح بخيالها الطفولي ،وهي تركض بين أحضان كروم العنب والتين والرمان .وأتي ذاك الخيال مسجىً بشعور مراهقة لا تدرك ما يدور في هذيان روحها ،لينتقل بها الى مراحل الدراسة الثانوية حيث هناك نبت زعتر روحها ونعناع فؤادها ،وقد كانت الكلمات قد بدأت تتراقص بين الفينة والأخرى على أوتار الماء في جداول قلبها . كانت في صف الحادي عشر عندما ولد أول عمل مسرحي لها باسم السلام اليوم، وكانت عاشقة لخشبة المسرح تقوم بكتابة السكتشات،وكانت تلك المسرحية الأولى والاخيرة التي ألفتها..
ولكن عشقت الكلمة وعشقتها وتعاهدا على زواج روحاني،و أن تبقى سيدتها مهما غدر الزمان بها .وها هي الظروف تؤدي الى طلاق مدة عشر سنوات ،وبعد مصالحة عقدت زواجها مرة أخرى بعقد أبدي أثمر مواليد عدة في مجال الشعر والقصة وأدب الأطفال. أصدرت ديوانها الأول "ما وراء ديمة" سنة 2004 ، ومن ثم قصصاا للأطفال بعناوين : "الشمس والقمر سنة 2010 ، و "القبطان الحيران " سنة 2011 ، و "أحلام تالة " سنة 2012 ، ثم كتاب نثر جمع الخاطرة والقصة والحكمة بعنوان "قزحيّة اللون " سنة 2012 .
ولها تحت الطباعة قصة أطفال بعنوان : "يافا والعيد "ستصدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية ، و قصة أطفال أخرى عنوانها : "الحارس النائم "،وهناك أيضا العديد من الأعمال التي تعمل عليها حالياً وخاصة في مجال أدب الأطفال، وتحضر لديوان شعري جديد سيصدر السنة القادمة 2013 إن شاء الله.
ترعرعت الشاعرة الفلسطينية وفاء عياش بقاعي في بيت قومي ،زرع بها حب الأرض والوطن ،لتبقى صورة والديها مرتسمة في خيالها وهي تسمعهما يتمنيان الموت فوق تراب قريتهما المهجرة التي لم يتحقق لهما حلم العودة إليها . وتحكي الشاعرة في إحدى قصائدها أن والدتها قالت لها قبل وفاتها بأشهر : "يا رب امنحني عمرا لأعيش يوماً واحداً فيك يا دامون" . ومن هنا شربت أديبتنا كؤوس الانتماء والحب للوطن فلسطين ، حيث خلدته في حروفها وإبداعاتها ،وتكمن الصعوبه في أن يعيش المرء منزوع الهوية ضائع التضاريس ، مما جعلها تنتبه لأهمية أن تزرع ذلك الحس الوطني في أبنائها وطلابها ثم تغرسه إبداعا في حروفها.
وفي كتابة الشجن \ الحزن \ الوطن\ الأرض \ المحبوبة\ القدس\ نجحت شاعرتنا في تكسيير النظام الذكوري سواء أكان الأبوي أم الأخوي أم الزوجي المهيمن على مختلف جوانب الحياة وبينها الإبداع ، على حساب بنات حواء ، متحدثة بصوتٍ مستقلٍّ نابع من ذاتها لا يقلد أحداً ولا يسير على أي خطىً ، بعكس ما رأيناه عند مبدعات فلسطينبات كثيرات نسجن لوحاتهن الشعرية على منوال ذكوري ، كما هو الشأن عند الشاعرة فدوى طوقان التي اتخذتْ من أخيها شاعر الوطن الكبير إبراهيم طوقان مثلها الأعلى في الكتابة ، وقدوتها في رسم ملامح الوطن الأسير .مما ولّد اعتقاداً خاطئاً بأن الأنثى المبدعة هي ظل للرجل المبدع ، وتابعة له ثقافياً ، ثم جاء ظهور وفاء عياشي صحبة عدد من الأصوات الفلسطينية النسائية المعاصرة ليسلكن طرقاً إبداعية تتسم بالجِدة والتفرد والتميز والاستقلالية .
هنا لا بد من التطرق إلى ما جاء في بعض قصائد الشاعرة وفاء عياشي لنؤكد أن الوطن جعل من الإبداع شكلاً من أشكال التحرر من كل هيمنة أو سلطة ، ففي قصيدتها "على شرفة الوقت" تقول :
امنحني قليلاً من وميض الصمت
كي أرتب اوراقي المبعثرة
فوق شرفة الوقت
هل هو الصمت الذاتي أم العربي الذي بعثر هذه الأوراق وأطال وقتها على شرفة الزمان والمكان ؟ ولتؤكد ذلك تشدد على قضية الزمن وإشكالياته تقول في نفس القصيدة :
لعلني أجد الحروف المسافرة في باخرة الزمن.
وهذا يعني عدم الاستقرار ، فالسفر والزمن هنا لهما مدلولات أخرى تثير الانطباع لدى القارئ بأنها في وضع نفسي غير مستقر نتيجة عدم استقراها بالوطن.وفي نفس القصيدة ورد أيضا عامل الزمن وكأنه دينمو الفكرة التي رمت من خلالها شاعرتنا العمق الحقيقي لما يكمن في مكنوناتها فقالت:
السنين ما زالت تحمل
بقايا ما تبقى
من وقت
امنحني قليلا من ذاكرة
لأجد عرش قصيدة
تقرأها مدى الدهر
يلعب الوقت دوراً أساساً وهامّاً في مدلولات الشاعرة يحيل إلى مجموعة من المشاعر المتداخلة كالانتظار والترقب واستشراف المسقبل والتمسك بالأمل . كل ذلك في تواز مع استحضار الماضي بما يحمل من رومانسية حزينة وشعور جياش بالشجن ، وهاهي تبحث في هذه السطور عن قليل من الذاكرة ، وهي ذاكرة الوطن التي تحلم له بعرش قصيدة تُقرأ إلى الأبد كالنشيد الوطني مثلا !!
بذات اللغة الشجية تتحدث في قصيدة " على باب القيامة " راسمة بريشة الشجن ارتباطها العميق بأرضها وانغماسها الوجداني في كل أحلامها وآمالها .تقول :
تقوم سيدة في الأربعين
من جسد الأرض
من ثغاء الثرى
هذا الألم لشدته جعل من لغتها رسماً بيانياً مبتكراً لصور شعرية لم نعتدها فالأرض لها جسد إنساني ، كما أن الثرى لها ثغاء.إنه تشخيص للأرض يجعلها كائناً متحركاً حياً يئن من وطاة الأسر ويتطلع لعناق سماء الحرية.
وفي قصيدة أخرى لها عنوان " القدس" استوقفنا شجن من نوع آخر مكرس لمدينة هي في القلب والروح ،و له دلالات وانعكاسات أخرى كانت سبباً لإبداع من نوع آخر :
أرتشف خفايا الصمت في كأسك
وهو الصمت الذي أشرتُ إليه في هذه القراءة وما يكتنفه من خفايا كثيرة :
على مهل يغزل المطر المراهق
لعاب الأرض سراجاً
وهل المطر هو مراهق أم هي دلالة لعدم الاستقرار ؟ ولتأكيد ما تعنيه القدس للوطن نرى كيف أن الشاعرة قامت بتكرار كلمة قدس بما لا يقل عن 6 مرات في قصيدتها ، إضافة إلى الإحالة عليها بمرادفات عديدة اخرى كقولها :
يسجد البلور في رحابك
يا سيدة المدن
يا سيدة المقام
وهنا تُبرز مدى قدسيتها للعالم عامة ، وهي مهد الديانات السماوية..ورمز للفلسطينين خاصةً يختزل وجودهم وكينونتهم :
لم أغزل سيدتي من نور قدسك
قداسا أطهر به قلبي
يا عروسة المحراب في الصلاة
(المحراب موقعه المسجد الأقصى المبارك )
ظللي من ضياء طهرك
خيام الغائبين وراء الشفق
سيدتي وسيدة المدن
هنا تتطرق لتساؤل آخر حول الغائبين ولبعدهم عن الوطن هم أبعد من البعد نفسه " وراء الشفق " أي في اللا محدود ، وتعود لقضية الزمن والشجن والغيب والموت والمقتول وكلها ألفاظ تمثل عناء شاعرتنا من عدم اقتراب حلمها أو حتى تحقيقه وهو وجود الوطن:
حرري الوقت المقتول فوق الغيب
الموت من تحت اقدامك عروس
تتجلى بالثوب الابدي " وهو الثوب الحلم !!
بنفس النفَس الوطني ترثي الشاعرة فقيد فلسطين الكبير محمود دوريش ، الذي صورّ الحلم الفلسطيني المشروع بقلمه المناضل ، وظل قامة منتصبة برغم الأسر والحصار . تقول بنغم جنائزي حزين فابضة على لحظة الفقدان :
قبل يومين ...........
من صمت الفراشة
من ترجل الفارس الحصان
قبل يومين من سكون الليل
في فوهة الموت
كان حلم
كان همس
كان كلام
كان صمت الحلم الأبدي
إلا أن هذا الحلم الفلسطيني لم يفقد كل أركانه فلا زال عصياً على الذوبان والتلاشي تحت وطأة الانكسارات والصفقات والأنفاق المسدودة .ذلك لأن أصحاب الحق لا يغلقون أعينهم أبداً أمام أشعة الشمس القادمة من بعيد ، التي تبشر بتحقق الحلم ذات فجر جميل . تقول الشاعرة وفاء :
على زندي تشرق الشمس
ويسافر الحلم في ندى الحلم
دافئة أنت...........
كليلة عطر تنام على زندي
تتميز كتابات الشاعرة وفاء عياشي بجمالية خاصة ، وذاك راجع إلى تعدد مجالات اشتغالها في حقول الأدب ، فقد كتبتِ المسرحية والقصة القصيرة والخاطرة إلى جانب الشعر ، فجاءت قصائدها كثيرة الروافد متنوعة الأساليب غنية الدلالات .فضلا عن تجربة الشاعرة في الحياة وانفجار كيانها تفاعلاً مع مأساة الوطن السليب ، وهو ما أضاف إلى بوحها خطراتٍ فلسفية تأملية عميقة مكسوة بالشجن والحزن والألم والأمل، وكما رأينا في النماذج السابقة من شعرها فهي تستخدم اللغة بكيفية مجازية وتجعلها أداة تعبيرية في خدمة المعنى . ولعل هذا من أهم خاصيات الشعر الحديث الذي أعاد النظر إلى اللغة من غاية بحد ذاتها إلى وسيلة لخلق العالم الشعري وتصوير رؤى الشاعر ونظراته للعالم والأشياء.
يظهر احتفال الشاعرة جلياً باللغة في المركبات الإضافية التي تُكثر استعمالها في قصائدها صانعة بها علاقة حية بين الأشياء الملموسة والمحسوسة ، كما في قولها في قصيدة " شرفة الوقت" : شرفة الوقت/ وميض الصمت/ باخرة الزمن/ عصير النهار/ أنعام ضجر/ سيمفونية موج/ رذاذ الأيام/ قارورة الوقت ، وهي مركبات تضيف إلى القصيدة خاصية الإيحاء ، وتقوي من الجانب التخييلي والتصويري لدى الشاعرة ، فتحقق إحدى شروط قصيدة النثر المعاصرة التي تعطي أهمية كبرى للغة الشعرية وتميزها عن اللغة اليومية المتداولة ، خالقةً شعراً في قالب نثر ، خارج فوانين الاوزوان والقوافي ، معوضة إياها بالإيقاع الداخلي النائج عن الترديد
والتكرار وموسيقى الفكرة والصورة . فضلا عن تلك العناصر نجد في شعر وفاء عياشي رومانسية شديدة الاقتراب من عوالم المدرسة المهجرية من حيث توظيفها للطبيعة بكثافة كي توصل من خلالها رؤيتها للمتلقي ، متحدة بكل كائناتها وأشكالها لتصوغ باراتها برمزية وفلسفة وصوفية ، ومثال ذلك ألفاظ الطبيعة التي وردت بكثرة في قصيدتها " على زندي تشرق الشمس" : تشرق الشمس/ ندى الحلم / ليلة عطر / أصيرا عصفوراً/ يأتيني البحر/ يداعب بأمواجه نسمات الصباح / رائحة العشب/ ورد الصباح/ فرس المساء/ رحيق شفتيك/ ...إلخ فتشيع في قصائدها لغة رومانسية شفافة حزينة واضحة لا إبهام ولا تعقيد فيها ، تصل إلى القلوب والعيوم والأسماع من أقصر طريق ، وتبوئ صاحبتها مكانة هامة في الشعر الفلسطيني المعاصر.
هذه قراءة سريعة لبعض العناصر الموضوعية والجمالية في قصائد الشاعرة وفاء عياشي بقاعي ، فشعرها الملتزم المتنوع الروافد العميق في نظراته يستحق قراءة أطول تستجلي خصائصه وتستكشف انشغالاته وتلتط إشاراته ومراميه ، ولعل خير ما نختم به هذه الدراسة هو قصيدتها "امرأة أسطورية" التي تختزل شخصيتها الأدبية وصراعها مع الزمن وخفوق قلبها بالحب والامل واليقين بالانتصار :
امرأةٌ ..... ليّسَتْ كَكل النساءِ
امرأةٌ.....تلبِسُ النّهرَ عروساً لإيزيس
امرأةٌ ... ..تنامُ في قصرِ ولادة
تفرشُ الحروفَ حنينا
والقصائدُ كانت للحبِ بديلا
تختبِىُء في همساتِ بن زيدون العليلة
امرأةُ الأسطورة..............
من حكايا الفِ ليلةٍ وليلة
شهرزاد تمسحُ وجهَ الشَّمسِ
في قلبِ شهريار
ويضيُء البدرُ صباحًا
في كفٍ.......
شربَ الموتُ رسالةَ حياة
امرأةٌ.....ترسِمُ بأنامِلها خرائِطَ عشتاروت
تحيكُ من دمعِ المقلِ
باقاتٍ من قبلِ
وتضمُ عينيكَ وسادةَ ياقوت
امرأةٌ تهدي الياسمينَ
لألىَء نجومٍ في مراسيمِ النَّوى
تحملُ الوجدَ في الحشى
تحوْلُ الصحراءَ ينابيعَ قََطى
يعكسُ في مرآةِ الظلِ عطرًا وندى
امرأةٌ تهوى الهوى
وإذا ووريّت في الثرى
يجيب رميمُ العظامِ
ما زلت امرأةً
تشتاقُ للوعةٍ من هوى
والبحْرُ يسرحُ جدائلَ أمواجي
أسطورةُ عشقٍ في نخالةِ عظامي —